تأتي إلي الحياة , بلا شئ , تبدأ في التعرف علي ملكة الرغبات والأمانى , تتمني اللعبة التي في يدي جارك وترسم مشاعر تتحقق إذ تملكتها , ثم تحصل عليها وتزهد فيها , تكبر وتكبر أمانيك , تتمني مصادقة هذا الشاب وتعتقد أنك ستكون أسعد حالا بوجوده في حياتك , تبدأ العلاقة في أوجها منبهرا منفعلا ..ثم تخبو بداخلك شعلة الانبهار لتتعامل مع الاختلاف بينكم حتي تصل لتلك المرحلة التي لا نعرف فيها تكوين صداقة حقيقة في مناطق الاشتباك و الاختلاف بين ذواتنا , وقص عليها علاقتك مع الأهل والأحبة وزملاء العمل ..عندما تصير مناطق الاختلاف ...ساحة حرب علي أحد الطرفيين رفع الراية البيضا أو يخر صريعا .
كبرت أكثر ..وتمنيت أن تحصل علي هذه الوظيفة وتلك الزوجة ..والدخول في دائرة النفوذ في عملك لتكن من الحظوة لدي مرؤسك ...تمنيت أن ترتدي من بيت الأزياء الفلاني ,,وتلبس ماركة النظارة والساعة العلانية ,,كل ما سبق أماني مرتبطة برغبات تريد إرضاء شهوات مرتبطة بتوقعاتنا أن حياتنا تصير أفضل في حال تحققها , وأن هذا حقا ما ينقص حياتي لكي أتم سعادتي المنتقصة ..دائما تقف سعادتي عند هذا اللوح الزجاجى الذي أرى من خلفه حياة الآخرين متمنيا منصبهم نفوذهم شكلهم علاقتهم .. حياتي من خلف الحاجز الزجاجى بائسة , مملة , عادية مثلي ..هكذا نظرت لذاتك التي لا يميزها شئ من العالم خلف الحاجز الزجاجى .
تداعت هذه الأفكار في رأسه بينما كان يجلس علي ذات الكرسي الذي جلس فيه أول مرة جاء ليعمل في هذا المكان , تذكر جيدا كيف كان ينظر إليهم وهم يتحركون أقرب إلي الركض , يرتدون أبهي حلة , يبدون له ,من خلف الحاجز الزجاجى في قاعة الانتظار, ذوات مهمة , ناجحة ..تذكر جيدا كيف أنه في تلك اللحظة تمني أن ينتمي إلي هذه الحياة , أن يبدو مثلهم , طموحه وجده متجسدا أمامه ولكن في آخرين يحيون وراء الحاجز الزجاجى .
هذا الكرسي لم يجلس عليه منذ سنة أو ما يقارب , جلس يلتقط أنفاسه , من الركض , داخل حلبة الغرفة الزجاجية , لقد دخل وانضم لهم في اللحظة المقدرة له , وانتشي في البداية , منبهر متعجب من هذا العالم الجديد , اعتقد في البداية أن العيب لديه فهو المبتدئ , لا دراية له بإدارة هذا العالم متشابك الأطراف والعلاقات , ستأخذ بعض الوقت لتمسك بقواعد اللعبة وتصير لاعبا أصليا معهم ...ولكن يمر الوقت وتدرك أن قواعد اللعبة أن تصير منافقا ..حاقدا...كاذبا ..لتكون ناجحا .. يبالغون في مظهرهم لكي يخفوا القبح في ذواتهم ...يبالغون في توبيخ الآخرين علي أخطائهم ..لأنهم يرون أنفسهم صفرا كبيرا ...يبالغون في تجاهل غيرهم ..لتعطشهم للاهتمام والتقدير الإنساني الحقيقى .
بعد أن التقط أنفاسه ...ضرب بكفه علي الحاجز الزجاجى ليدخل عالمه الجديد , وهو يحاول نسيان ما تذكر ...حتي لا يراهم جميعا عراة بعد أن سقطت ورقة التوت الأخيرة .