2014/05/16

رقصة نون المكسورة عكس عقارب الساعة



في 1963 وقف الأفندي رب أسرة – من الطبقة المتوسطة- أمام زوجته زاعقا "عشت وشفت بنت ليا بتشترك في مظاهرة"، ثم جاء حذائه علي أم رأس ابنته طالبة الثانوي، ليعلمها الدرس الأهم؛ إذا خرجتي مرة أخري تهتفي "تعيش مصر حرة"، فليبقى في مخيلتها مشهد زحفها علي الأرض هربا من حذائه فيما ستكتفي أمها بالامتعاض من علي بعد، وهو يصرخ فيها "لو عملتيها مرة تانية..هقتلك".

في 2014 تقوم السيدة العجوز بسحب حفيدتها تحت قدميها، صارخة في نسوة الحارة حولها "هاتوهالي"، شارعة في جز شعرها ، وتدوس بقدمها علي رأسها عقابا علي ما وصل إليها من كلام أهل الحارة أنها حفيدتها لابنها المتوفي أقامت علاقة غير شرعية مع أحدهم. 



نصف قرن من الزمان فصلت بين عملين سينمائيين: الباب المفتوح، وفتاة المصنع، كانت كفيلة أن تخلق واقعا جديدا لحياة المرأة المصرية، تخرج معه معالجات سينمائية جديدة لما يحمله هذا الواقع من تحديات ومشكلات، ومع ذلك تبدو حياة نون النسوة في مصر وكأنها تجمدت عند تلك اللحظة التي رفع فيها الأب حذائه ليعاقب ابنته علي خروجها في المظاهرات؛ لحظة القهر الخالصة التي عاشتها ليلي ابنة الطبقة المتوسطة في ظل ثورة يوليو، وتعيشها إلهام ابنة المنطقة الشعبية والطبقة الفقيرة في ظل ثورة يناير.

فيما يجادل الكثيرون أن النسوة في بلادنا تحصلن علي حقوقهن علي مر السنوات الماضية مقارنة بالوضع آنذاك مع مطلع الحركة النسوية المصرية في القرن الماضي، جسد المبدع محمد خان في المشهد السابق لبطلة فيلمه فتاة المصنع، وضع لم يختلف البتة عن وقع الحذاء علي رأس ليلي –فاتن حمامة- في الباب المفتوح؛ إن الجنين بمجرد تحديد جنسه أنثي، ويكتمل وصوله إلي الحياة تبدأ عقارب الساعة تحسب حياتها محملة في كل ثانية بأحكام مسبقة ترسم سكناتها وحركاتها وتحد أنفاسها، وعليها أن تخضع لها وتصبح طوقا علي رقبتها، إذا ما حاولت إعادة العقارب إلي الوراء ، يضيق الخناق أكثر، ومع هذا يأت بصيص الأمل من القلة الناجية التي مزقت ذلك الكتاب المقدس الذي يفرض عليها مطابقة أفعال المرأة مع  توقعات المجتمع، وصنعن الحياة بغزل دقيق ومتناغم رغم تشابك الكثير من الخيوط.

بالطبع لن أجادل أن الأحكام المسبقة في مجتمعنا لا تفرق بين رجل وامرأة، وأن كلا من يولد، ومعه قائمة الأوامر والنواهي الخاصة التي تمليها عليه الأسرة والمدرسة والكنيسة أو المسجد، ثم مدراء العمل، ثم رفقاء الحياة، ودواليك حتى تواري الثري، ولكن ألا تحمل كرومسوم Y، فهذا يعني أن الأنثى لها حظ الذكرين من القهر والألم والسحق، وهذا لا يقتصر علي طبقة بعينها، حيث عايشته مع نساء يحملن الدكتوراه والماجستير، وآخريات يعملن خادمات.

من دفتر أحوال القهر في الألفية الثالثة، الختان تلك العادة المستمرة منذ آلاف السنوات وتصدر حكما مسبقا علي الفتاة أنها ستقطع في المعصية، وغطاء الشعر الذي تحول من فريضة دينية إلي طلب شرط اجتماعي للزواج والحصول علي صك رضا المجتمع بأنك حظيت بلقب "البنت المحترمة"، الطلاق ذلك الحل الديني لاستحالة العشرة بين زوجين، الذي تصبح بعده المرأة لو أقدمت علي  اتخاذه لا سمح الله، "سكند هاند" أو مستعملة، وإذا رغبت في الزواج مرة أخري ولها أطفال، تصبح امرأة شهوانية، فضلا عن أن المعيشة بعيدا عن أهلك سبب كافيا للظن في سوء سلوكك وأن هناك من لا يسيطر علي رغباتك الجنسية الجامحة.

مصيبتنا أن تلك الأحكام لا يقف فقط علي إصدارها الرجال، بل تجد النساء أكثر حرصا علي الخوض في أعراض من يجدهن ناشزات عن كتابهن المقدس؛ فوالدة ليلي في البيت المفتوح كانت النموذج المستكين أمام قهر الزوج، وتقدم له مبررات علي تحكمه في حياتهم، وجدة هيام ونساء الحارة نموذج سافر آخر عن من ينفذ العقوبة فورا في بنت متهمة بسوء  السمعة، دون إعطائها ولو حق المرافعة.



في تلك الصورة القاتمة، تجد من يدفع عنها الظلم، ولكن استجابتها تتوقف علي ما تبقي لها من إرادة لم تطلها يد القهر المجتمعي؛ فقد رأيت فتيات في العشرين سُلبت أرواحهن في قهر بدأ مع التحكم في سلوكهن وعلاقتهن بالله ثم حرمانهن من التعليم أو إجبارهن علي دراسة معينة، ثم اختيار زوج بعينه، وعندها توقفت عن حكمي المتعجرف ضدهن بأنهن لم يستجبن لنصائحي المعلبة عن الانطلاق والتحرر. لكن علي الجانب الآخر، كان هناك حسين عامر، ذلك المناضل الوطني الذي أحب ليلي، فكتب إليها متفهما خوفها منه بسبب تجربتها السابقة التي انتهت بخيانة حبيبها لها، فقال لها : "أنا أحبك وأريد منك أن تحبينى، ولكنى لا أريد منك أن تفنى كيانك فى كيانى ولا فى كيان أى أنسان. ولا أريد لك أن تستمدى ثقتك فى نفسك وفى الحياة منى أو من أى أنسان. أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التى تنبعث من النفس لا من الاخرين". تلك الكلمات المنمقة الرائعة عبرتها عنها بطريقتها أم هيام، سيدة من الطبقة الفقيرة وتزوجت مرة أخري بعد وفاة والد هيام، عندما وقفت تدافع عن ابنتها أمام زوجها وأخواتها حاملة سكينة، صارخة فيهم "اللى هيجي جنب بنتي هقطعه".



كانت هيام من المحظوظات التي وجدن الإرادة لتنسج حياتهن رغم الوجع، فحققت نذرها ورقصت في فرح من أحبته وخيب ظنها مسببا لها في فضيحة وسط حارتها، في مشهد عبقري يحاكي مشهد رقصة سعاد حسني بدلا من أمها الراقصة في "خلي بالك من زوزو"، لم تخش هيام المعازيم والعريس والعروسة، فقط وقفت علي أناملها ترقص علي وقع الموسيقي محاولة إعادة الساعة إلي الوراء مرة أخري، لاستعادة كرامتها التي ذُبحت علي معبد السمعة والفضيحة.





                              


2 comments:

  1. ممكن اعرف باي حلقة يكون المشهد لما الجدة تعاقب البنت على الحكي الي سمعته

    ReplyDelete