2014/01/15

مخيم اليرموك: قصة واقعية حزينة





عندما تختار مهنتك، ربما يرسم لك خيالك الواسع أنك ستكون قادر علي تخفيف آلام المستضعفين في الأرض، إذا كنت طبيبا قادرا علي إنقاذ ساق من البتر، أو قلب من النزيف، أو إذ كنت صحفيا قادر علي تخطي الحواجز بين معسكر الشر والخير منقبا عن الحقيقة كاشفا عنها للعامة، أو إذا كانت مسئولا في وكالة إغاثة دولية ستحمل مئونة حاملا الأمل المتمثل في زجاجة دواء أو قطعة خبز، وربما سيسعفك الحظ من بين كل هؤلاء لتصبح ذلك السياسي الذي فيه القرار بإيقاف الحرب...ولكن في مخيم اليرموك لن تجدي الكلمة المكتوبة في خانة المهنة لتغيير واقع يصبح فيه الوقوف علي قدميك إنجازا يوازي صعودك القمر من مكان آخر علي كوكب الأرض.

في بقعة الشرق الأوسط، اعتدنا الألم واعتدنا أن نسمع عن المتألمين مع استكمال حياتنا الطبيعية، أصبح منطقنا: نحمد الله أن بلدنا لم تقصف، ثم الرب أنقذ بلدتنا من وسط كل الخراب، وفي النهاية نتمتم بين من تبقي من أهلنا أحياء "نحمد الله لقد كان منزلنا الوحيد المتبقي من بين كل بيوت الجيرة"، لم نسع علي المستوي السياسي لاتخاذ القرار الذي ينقذنا من الاقتتال والتناحر داخل البلد الواحد أو بين البلدان وبعضها البعض، وعلي مستوي الأفراد يذهب الأغنياء فينا لرمي أموالهم علي غانيات الغرب والشرق، ونسائهم يصرفن الثروات علي الماركات العالمية، في الوقت الذي يصبح الموت جوعا وفقرا ومرضا ماركة مسجلة في مخيماتك يا وطن.


ولأن العجز سيد الموقف، وليس حالي كصحفية أفضل من السياسي فيما يتعلق بإيقاف الكارثة التي تحدث علي أعتاب بلداننا العربية...علي بعد أٌقدام عند مخيم اليرموك وفي بقاع أخري مجاورة له..سأشارككم قصة واقعية وصلتني اليوم من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين-الأنروا عن محاولة فاشلة لإدخال الإغاثة إلي المخيم، قصة حزينة عن كيف يلعب النظام بمعاناة الشعب ويعرض القافلة للخطر من خلال السماح لها بالدخول من طريق الاقتتال بين القوات الحكومية والمعارضة، وفي النهاية سيتأكد لك أن هذه المنطقة العربية سُلط عليها حكام من جنس الأبالسة لن يتركوا الحكم طالما مازال في الجسد نفسا ولن يتركوا شعوبهم تعيش.

القصة علي لسان كريس جنيس المتحدث الرسمي بآسم الأنروا



كانت قافلة الإغاثة- التي حاولت دخول مخيم اليرموك تابعة للأنروا و بقيادة موظفيها- محملة بمساعدات إنسانية من المخزن الرئيسي للوكالة في دمشق. كانت مكونة من ست شاحنات صغيرة محملة بغذاء ل 6000 شخص إضافة إلى 10 آلاف جرعة لقاح لشلل الأطفال و مواد طبية أخرى. وفرت لنا السلطلات السورية حراسة أمنية مكنتنا من الوصول إلى آخر نقطة تفتيش تحت سيطرة الحكومة عند المدخل الجنوبي للمخيم.  سمح للقافلة بأن تواصل سيرها لما بعد نقطة التفتيش ووفرت لنا السلطات السورية بلدوزر لفتح الطريق و إزالة المخلفات و السواتر الترابية وغيرها من المعوقات.

 وقع إطلاق النار على البلدوزر و أصيب بطلق ناري مباشر أجبره على الإنسحاب دون تسجيل خسائر. و تبع ذلك إطلاق نار بما فيها بالأسلحة الأوتوماتيكية بالقرب من شاحنات الأنروا بما يشير إلى معركة. كما إنفجرت قذيفة بالقرب من القافلة.عند هذا الحد إنسحبت القافلة لتعود سالمة إلى دمشق متبعة نصائح المرافقة الأمنية .

لم يقع أبدا إطلاق النار على قافلة الأنروا ولم يصب أو يجرح أي شخص من القافلة. لما سمحت السلطات السورية للإنروا بالقيام بإيصال المساعدات إشترطت إستعمال المدخل الجنوبي للمخيم وهم ما يعني أن القافلة كان أمامها أن تقطع مسافة 20 كيلومتر عبر منطقة من النزاع المسلح الكثيف والمتكرر وحيث تتواجد العديد من مجموعات المعارضة المسلحة بما فيها بعض مجموعات جهادية تشددا ذات حضور قوي و فاعل هناك. 

و قد تذرعت السلطات السورية بمشاغل أمنية لعدم السماح للأنروا بآستعمال المدخل الشمالي للمخيم الذي يقع تحت رقابة الحكومة و الذي يعتبر عادة أكثر قابلية للدخول مع مخاطر أقل نسبيا .

ويعتبر هذا الفشل مخيب للآمال بالنسبة لسكان مخيم اليرموك الذي لايزال يعيش في ظروف إنسانية بائسة. و رغم هذا الفشل المحبط لم تفقد الأنروا حماسها و هي تمارس الضغط على السلطات السورية لدعم محاولة أخرى لإيصال المساعدات الإنسانية لمخيم اليرموك الذي يعد واحدا من ضمن العديد من المخيمات الفلسطينية التي تعيش ظروفا قاسية للغاية مع تفاوت الدرجات


2014/01/12

10 خطوات تُبعدك عن قتل صاحب فكرة تسلقك جبل موسي



هناك أشياء فعلتها، لم أتخيل يوما أن أفعلها، لأنني ببساطة لم أتخيل نفسي أفعلها، أولهما كانت زيارتي إلي الضفة الغربية في فلسطين في شتاء 2012،  وثانيها كانت أن تتسلق الآنسة- -over weight تلا، ناهيك عن جبلا.

فإذا كانت ابن المدينة مثلي، أقصي مغامرة فعلتها في حياتك أن تركب الدودة في دريم بارك، واستمعت إلي نصيحة صديقتك المقربة بتسلق جبل موسي في رحلة ذهاب وعودة في أقل من 48 ساعة، ربما كل ما ستفكر فيه أثناء تجمد أطرافك، وتسارع نبضات قلبك، مصاحب بهاجس "مصرع صحفية ..سقطت زرع بصل من جبل موسي" خلال صعودك أو هبوطك، هو أي منهج انتقامي ستتبعه معها إذا عدت إلي مدينتك الملوثة –القاهرة-.

ولكن لأن "رؤية الجمال من خلال صورة، ليست كاختباره بث مباشر"، ربما هذا ما أنقذ صديقتي من التطبيق العملي لفيلم "أمير الانتقام" بسبب الألم الذي اختبرته كل حواسي وحملت بصماته كل أعضائي المتورمة.



وفيما نري الحياة في بلادنا من "خرم إبرة"، هناك براح يسعنا جميعا علي بعد حركة من أطراف أناملنا: طرق لم نمش فيها، وبحار لم نركبها، وجبال لم نتسلقها، وسماء لم نتأملها، وأشخاص حاملي معادن نفيسة في ذاوتهم لم نتلق بهم، هذا كان ما اختبرته علي بعد 300 خطوة من قمة جبل موسي.

ورغم أن ألمي كان أكثر من قدرتي علي الاستمتاع بالجمال المحيط بي علي سفح الجبل، وأقدامي تحملتني بالكاد في رحلة الهبوط وحدي علي مدار 3 ساعات وأنا ألعن اليوم الذي فكرت فيه أن أخوض هذه التجربة، إلا إن استيقظت هذا الصباح وأنا أقول لنفسي سأفعلها مجددا، لكي أكمل ما تبقي لي من 300 درجة من السلالم المؤدية إلي القمة، وربما المرة القادمة سأتسلق أعلي جبل في مصر "سانت كاترين"، والمرة التي تليها سأقفز من طائرة، والتي تليها سأغوص في أعماق البحر، والسبب أن الألم استقر، والحكمة من رحلة الأمس تجلت في اختباري قدرة كل ذرة في جسدي علي التحمل، وجلد روحي علي مواصلة السير في ظلام حالك، أملا في رؤية أول شعاع سيضرب الحياة في ربوع مصر.

لذا أنصحك إذا كنت تفكر في الهجرة، أو العودة إلي مضادات الاكتئاب، أو الاستكانة إلي نزهات سيتي ستارز، أن تخرج مع أصدقائك في رحلة يومين إلي طابا، وتسلق جبل موسي، أضمن لك أن التجربة ستجلي روحك من السحابة السوداء التي علقت بها في صراع المدينة، ستعانق السحاب، وتعود بروحك الأصلية، كما كانت في عالم الذر.

ولكي لا تقتل صاحب فكرة تسلقك جبل موسي، سأنصحك بما لم تنصحني به صديقتي:
1لا تذهب في رحلة مدتها يوم ونصف لمجرد أن تكلفتها 100جنيه، لكي تتسلق جبل بعد سفر من القاهرة إلي طابا يستمر لمدة 12 ساعة

2- احجز لنفسك في فندق في طابا 3 أيام، تقوم خلالها بتسلق الجبل، لكي لا تتحول الرحلة إلي تعذيب جسدي.

3- لا تتسلق الجبل إذا كان  وزنك زائدا، أو تعاني من أنيميا ونبضات قلبك تتسارع من أقل مجهود.

4- لا تتسلق الجبل، وأنت تعتقد أنك في نزهة للأزهر بارك، فأنت ستبدأ رحلة المشي علي الأقدام في الظلام عند الساعة 11 ليلا، لكي تستمع بشروق الشمس علي بعد يقرب من 1000 ميل من سطح الأرض.

5- الكوفية وغطاء الرأس و معطف ثقيل و قفاز الجلد وليس الصوف سيكونوا أصدقائك المخلصين في الرحلة، ولا ترتد القفاز إلي منتصف الرحلة، فقبل ذلك سيشعرك بحرارة شديدة.

5- الجوع لن تكون مشكلتك الأساسية أثناء التسلق، ولكن الشعور بالبرد، لذلك لا تثقل حقيبة ظهرك بالكثير من الأكل، واكتفي بشيكولاتة سنيكرز وبعد العصائر لمنحك الطاقة للحركة، واحتفظ بالأكل إلي سفح الجبل عندما تشدد البرودة، ويزداد معها الإحساس بالجوع.

6- لا تصاب بالذعر أنك وحدك علي الجبل، ولكن احصل لمجموعتك علي دليل سيناوي يرشدك إلي الطريق، وتستمع بحكاياته عن نوادر عمله.

7- لا تستمع إلي دليلك السيناوي عندما ينصحك بألا تكمل الطريق مع أول استراحة تمر بها، ويهبط عزيمتك عندما يشبهك بالسلحفاة مقارنة بسرعة زبائنه الأجانب، في حقيقة الأمر لن تكون أبطأ مني.

8- لا تنظر خلفك في الظلام، فكلما وجدت نفسك آخر المجموعة ستصيب روحك بخيبة أمل، ولكن انظر دائما إلي قمة الجبل، لتذكر نفسك بهدفك، وإذا أصابت روحك التعب، خذ نفسا عميقا، وانظر فوقك ستجد سجادة مضيئة بالنجوم، ستضئ روحك معها.

9- لا تضغط علي أحد لمواصلة السير، اضغط فقط علي نفسك، أنت أعلم بجسدك من غيرك.

10-  ارتد حذاء رياضي بكعب عالي لكي يصمد أمام الصخور في رحلة الصعود، وأمام الثلج الذائب علي  سلالم الجبل التي تزيد عن 700 درجة في رحلة الهبوط.

2014/01/09

محطتين ومقعد




هل انتهي الأسبوع حقا؟ ولم أرتكب جريمة في حق مواطن أو لم يرتكب مواطن جريمة في حقي خلال دورة حياة الأنثى المصرية في رحلتها اليومية في شوارع ومواصلات القاهرة؟....أحمدك يارب!

أعتقد أنى استحق أن أختم أسبوعى الخالى من الجرائم برواية قصة تحوى بعض الهراء غير السياسي، المنتهي دائما بالسؤال الوجودي الأول- ثورة ده ولا انقلاب؟

كما تستحق بطلة قصتي أن أخلد ذكراها، مع أنها لم تفعل ما سيدخلها التاريخ هي علي سبيل المثال لم تطيح برئيس منتخب، ولم تكن رئيس منتخب لعبة في يد جماعة، ولم تنال الشرف العظيم بتقسم الشعب إلي ثمان أربع، وكل ثمن إلي تسع أرباع آخرين...كل ما فعلته السيدة ذات العيون البنية المتسعة والهيئة الخمسينية، أنها أعادت لي جزء من إيمان بدولتكم ووطنكم وشعبكم...في رحلتي من الكفر إلي الإيمان مرة أخري!

عادة ما استقل المترو، وأنا في وضع حالة الحرب:  من سيتحرش، من سيسرق هاتفى أو الحقيبة، من سيسبقني إلي الكرسي، من سيدفعني فأموت بين بابي المترو، أو تحت عجلاته، وغالبا ما تلاقي عيناي أعين رفيقاتي في الحرب بنفس الأسئلة، متشاركين ومتضامنين في حالة البؤس العام المطبوعة علي الوجوه، فترسم ملامح قاسية باردة متحفزة تجاه إعلان الحرب لمجرد أن هناك تلامس بالأكتاف، عن دون قصد بين رفيقتي كفاح في صندوق التعاسة اليومي- المسمي المترو.

وفي ذلك اليوم، جلست سيدة المترو بجواري مع ابنتيها، وفي المحطة التالية، وجدتها تقف لتجلس سيدة أخري مكانها، وفي حالة فريدة من تصميم كل منهم عن أن تجلس الآخر علي الكرسي، وبينما أسخر في سري من سذاجتهم، متوقعة أن تأتي رفيقة ثالثة ستدخل من المحطة لتفوز بالكرسي بالنيابة عنهما، وجدت سيدة المترو تقول لرفيقتها: لقد علمت بناتي أن نجلس محطتين، ثم نقوم، ونبادل المقاعد مع الركاب الجدد، هكذا سنتحمل جميعا الطريق؟

وفي المحطة التالية، تركت مقعدي، ثم إلي المنزل ترجلت، وأنا أفكر في كيف أن فعلا  يبدو صغيرا، تقوم به هذه السيدة، وبناتها، سيغير يوميا حياة ما لا يقل عن خمس أفراد، سيشعرون أن كوكب الأرض مكان أكثر لطفا ورحابة، وأن جمهورية المترو المزدحمة، ستحمل لمسات إنسانية، تجعل أرض مصر تبدو ولو زيفا "عليها ما يستحق الحياة".

بالتأكيد إن ما تفعله سيدة المترو ليس الحل لتخلي الدولة عن دورها في تخطيط عمراني حضاري للقاهرة يستوعب الزيادة المطردة في السكان، ولكنه أمرا يعط للحياة المعني التي تحتاجه عندما "كل حاجة تبقي إجابتها آه ولآ في نفس الوقت"، عندما تسقط أوراق التوت عن كل من آمنا فيهم يوما، واعتقدنا فيهم المثل والقدوة، عندما ظننا أن الحق أحق بأن يتبع، مقولة جاءت ثورتنا لتقدم إليها التطبيق العملي، وليس المحو الأزلي لها.

في رحلتي من الكفر بهذا الوطن، وعودتي المحتملة إليه، واجهت هذا السؤال كل يوم منذ 28 يناير الماضي، وحتى لقائي العابر بسيدة المترو، هل يستحق هذا الشعب أن نضحي بأعمارنا، وصحتنا، وسلامتنا العقلية من أجله؟

وجدت ضالتي في هذا الجواب: هناك حفنة قليلة من سكان مجرة مصر، يستحقون هذه التضحية، وهناك أشخاص رائعون يحيون بيننا، ولا نعلم عنهم شيئا، لأن طبيعة المرحلة تعظيم وتفخيم الخسيس، وسحق الكريم، ولذا وجب التنويه وتذكير أنفسنا أن كل منا سيجد في نفسه الخسيس والكريم وسيظل الصراع قائما، إلي أن يحسمه إلي أحدهما، ولأن الله عادل، بقدر ما ستجد هؤلاء التي تصبح الحياة معهم علي كوكب الأرض مستحيلة، وتصير كراهية الجنس البشري واجب وطني لا مفر منه، ستجد أنت سيدة المترو الخاصة بك، لذا ركز جيدا، عندما تجدها، فهي تحمل إليك قصة سعيدة.

ملحوظة: لقد حاولت أن أفعل تجربة "كرسي ومحطتين مترو" ما يقارب 5 مرات حتي الآن في مواصلات عامة والمترو، واندهشت بعلامات الاندهاش التي حملتها وجوه رفقائي، كثير من الدعوات والابتسامات تلاحقني، وليس في يدي شيئا سوي الدعاء إلي سيدة المترو "المسيحية" صاحبة الفضل في هذه اللحظات من السعادة الخالصة.


2014/01/01

قتلي غرباء .....ذلك أفضل كثيرا




-"ممكن أسالك سؤال يا آنسة؟"

صوتها جاء من الطاولة المجاورة لي في أحد المطاعم، قاطعا حديثي مع صحبتي، ملتفتة بوجهي نحوها "اتفضلي"، في عُجالة سألت "هما الإخوان مش عندهم قلب زينا، هم فرحانيين في اللي حصل في مديرية الأمن في المنصورة؟"

ملامحي حملت نفس علامات الاستغراب التي حملتها محدثتي الخمسينية، عن دواعي السؤال، لغريبة مثلي، وكيف تكون الإجابة من جانبي، "أنا مش واثقة هما حاسين بإيه، بس أكيد ده حال ما يفرحش حد، بس هقولك علي حاجة، لو هما فرحانيين دلوقتي، أقدر أفهم السبب إيه، لما فيه ناس بررت موتهم في مذبحة رابعة، ممكن الظلم البين يخلي البني أدم يفقد أدميته، ولما الطرف التاني يبدأ يموت يفرح فيه".

"عندك حق، ممكن أنا ماكنتش شايفة اللى أنت بتقوليه ده لما حصلهم، بس اللى بيحصل في البلد ده لحد امتي!"، قاطعتها "المسلسل ابتدي، في أغسطس، ومحدش وقفه، لكن طبعا ده لا يبرر قتلي الجنود والضباط، بس دلوقتي اختلطت كل الأوراق".

ناهية حديثها معي، "مش في إيدينا حاجة غير الدعاء أن ربنا يسلم البلد، ويألف قلوبنا علي بعض تاني، وآسفة يا بنتي إن كنت أزعجتك، بس الواحد مش عارف يعمل إيه".
______________

"انفجار آثم في مدينة المنصورة يخلف عدد من الضحايا...سنوافيكم بالتفاصيل لاحقا"
جاءت المعلومة من جهاز الراديو الأحمر المجاور لسريري، حيث تحولت عادتي في النوم علي أثير الإذاعة إلي نقمة منذ 14 أغسطس الماضي، وكما لم أصدق حجم قتلي مذبحة رابعة علي مدار ذلك اليوم، مؤكدة حينها أن التهويل عادة إخوانية أصيلة من أي حادث عابر، اعتبرت أيضا أن التهويل سمة أصيلة في صناعة الكذب المصري.

تنقطع ساعات الصباح الباكر كأي صباح قاهري سابق عليه، وعند الظهيرة، أدرك ما يجعل الأنفاس تنقطع معها لوهلة، اثنين من أقاربي من شباب الضباط في الدقهلية: أحدهم ابن خالتي، هل أصبحت الآن معنية بملاحقة كل المعلومات المنشورة عن الحادث، والبحث عن رقم خالتي للتأكد من أن ابنها لم يكن في الحادث الذي بدي لوهلة مجردة قنبلة انفجرت مخلفة عدد من الضحايا؟!

"لم أعد معنية بقتلاكم منذ  اللحظة التي رصاصكم لم يخطأ مستقره في  قلوبنا قبل أعيننا...ولكن  لوهلة تذكرت أن دمائكم ربما اختلطت بدمائنا قبل أن يخط كل منا طريقه: جلاد وشعب"



عزيزتي الزوجة الشابة للضابط الناجي من التفجير الآثم، عاشت ساعات لن تمحها ما بقي من سنوات العمر، ستظل في مخيلتها، تلك السنين التي وفقا للحسابات الفلكية، مجرد ساعات ما بين الفجر وصباح يوم الحادث، حتى أرسل لها زوجها متعلقاته مع أحد العاملين في المديرية، بينما يمكث مع زملائه لمتابعة تطورات الحادث.

في تلك اللحظات الثقيلة التي تسأل نفسها هل أصبحت أرملة، وانتهي حلم العمر إلي عبأ العمر بترك وحدي في منتصف الطريق مع طفلتي!!...كانت هناك سيدة أخري لم يصلها أمين شرطة يؤكد لها أن زوجها وابنها علي قيد الحياة، بل وجدت نفسها تبحث عنهم في كشوف قتلي رابعة، بين هذه الجثث المتكدسة، والرائحة العطنة، عليها أن تعود حاملة حلم العمر في كفن أبيض، دون سلوى أو عزاء فهي كانت للإرهابي زوجة وأم!.


في نبرة محملة بالدعاء علي الإخوان ومن معهم، والدعاء ل"لأولادنا في الشرطة والجيش من الغدر بهم، زي اللى حصل في مديرية الأمن في المنصورة"، كانت جدتي تقص علينا كيف أن شباب 6 إبريل ارتكبوا الجرم المشهود في حق الوطن، حيث أكد لآيات الله المذيع برتبة لواء في أمن الدولة أحمد موسي اكتمال عناصر المؤامرة الكونية علي ربوع المحروسة بمشاركة شباب الثورة.

وفيما لم تتذكر جدتي ما الجرم المشهود، مكتفية بالمؤثرات الصوتية والبصرية المصاحبة لأداء موسي لتقنعها بفجاجة جريمة الثوار، اكتفيت في تلك اللحظة بأن أذكرها بأنها ربما تجد أسمي ضمن هؤلاء الممولين الذين تشاركوا برسائل علي فيس بوك مع محمد عادل، وحينها سيقنعها أحمد موسي بأدائه المسرحي  أن حفيدتها لابنتها التي عاشت معها 25 عاما، من أبناء السفاح الذين خربوا البلاد، من أجل حفنة من الدولارت.

وحينها استجاب القدر لسيناريو الحفيدة الممولة سريعا، لتعلم جدتي أن حفيد صديقتها وقريبتها، طبيب الأسنان الناجح المماثل لعمر حفيدتها، قُبض عليه بتهمة تفجير مديرية أمن المنصورة، وعليها الآن ألا تشعر بغضب علي كل المعلومات المضللة والمحرفة المنشورة في الجرائد عن الطفل الذي عرفته حتي صار شابا، وعليها ألا تشعر بالحنق لأن سمعة شاب في مقتبل العمر تتدمر علي يد رجال الوطن "الجيش  والداخلية"...ربما كل ما علي جدتي وزوجة الطبيب الشاب وسيدة المطعم فعله..هو الدعاء أن يظل القتلى والمعتقلين في الأيام المقبلة غرباء عنهم..إسكاتا لما بقي من الضمير.