-"ممكن أسالك سؤال يا آنسة؟"
صوتها جاء من الطاولة المجاورة لي في أحد المطاعم، قاطعا حديثي مع
صحبتي، ملتفتة بوجهي نحوها "اتفضلي"، في عُجالة سألت "هما الإخوان
مش عندهم قلب زينا، هم فرحانيين في اللي حصل في مديرية الأمن في المنصورة؟"
ملامحي حملت نفس علامات الاستغراب التي حملتها محدثتي الخمسينية، عن
دواعي السؤال، لغريبة مثلي، وكيف تكون الإجابة من جانبي، "أنا مش واثقة هما
حاسين بإيه، بس أكيد ده حال ما يفرحش حد، بس هقولك علي حاجة، لو هما فرحانيين
دلوقتي، أقدر أفهم السبب إيه، لما فيه ناس بررت موتهم في مذبحة رابعة، ممكن الظلم
البين يخلي البني أدم يفقد أدميته، ولما الطرف التاني يبدأ يموت يفرح فيه".
"عندك حق، ممكن أنا ماكنتش شايفة اللى أنت بتقوليه ده لما حصلهم،
بس اللى بيحصل في البلد ده لحد امتي!"، قاطعتها "المسلسل ابتدي، في
أغسطس، ومحدش وقفه، لكن طبعا ده لا يبرر قتلي الجنود والضباط، بس دلوقتي اختلطت كل
الأوراق".
ناهية حديثها معي، "مش في إيدينا حاجة غير الدعاء أن ربنا يسلم
البلد، ويألف قلوبنا علي بعض تاني، وآسفة يا بنتي إن كنت أزعجتك، بس الواحد مش
عارف يعمل إيه".
______________
"انفجار آثم في مدينة المنصورة يخلف عدد من الضحايا...سنوافيكم
بالتفاصيل لاحقا"
جاءت المعلومة من جهاز الراديو الأحمر المجاور لسريري، حيث تحولت
عادتي في النوم علي أثير الإذاعة إلي نقمة منذ 14 أغسطس الماضي، وكما لم أصدق حجم
قتلي مذبحة رابعة علي مدار ذلك اليوم، مؤكدة حينها أن التهويل عادة إخوانية أصيلة
من أي حادث عابر، اعتبرت أيضا أن التهويل سمة أصيلة في صناعة الكذب المصري.
تنقطع ساعات الصباح الباكر كأي صباح قاهري سابق عليه، وعند الظهيرة،
أدرك ما يجعل الأنفاس تنقطع معها لوهلة، اثنين من أقاربي من شباب الضباط في
الدقهلية: أحدهم ابن خالتي، هل أصبحت الآن معنية بملاحقة كل المعلومات المنشورة عن
الحادث، والبحث عن رقم خالتي للتأكد من أن ابنها لم يكن في الحادث الذي بدي لوهلة
مجردة قنبلة انفجرت مخلفة عدد من الضحايا؟!
"لم أعد معنية بقتلاكم منذ اللحظة التي رصاصكم لم يخطأ مستقره في قلوبنا قبل أعيننا...ولكن لوهلة تذكرت أن دمائكم ربما اختلطت بدمائنا قبل أن يخط كل منا طريقه: جلاد وشعب"
عزيزتي الزوجة الشابة للضابط الناجي من التفجير الآثم، عاشت ساعات لن تمحها ما بقي من سنوات العمر، ستظل في مخيلتها، تلك السنين التي وفقا للحسابات الفلكية، مجرد ساعات ما بين الفجر وصباح يوم الحادث، حتى أرسل لها زوجها متعلقاته مع أحد العاملين في المديرية، بينما يمكث مع زملائه لمتابعة تطورات الحادث.
في تلك اللحظات الثقيلة التي تسأل نفسها هل أصبحت أرملة، وانتهي حلم
العمر إلي عبأ العمر بترك وحدي في منتصف الطريق مع طفلتي!!...كانت هناك سيدة أخري
لم يصلها أمين شرطة يؤكد
لها أن زوجها وابنها علي قيد الحياة، بل وجدت نفسها تبحث عنهم في كشوف قتلي رابعة، بين هذه الجثث المتكدسة، والرائحة
العطنة، عليها أن تعود حاملة حلم العمر في كفن أبيض، دون سلوى أو عزاء فهي كانت
للإرهابي زوجة وأم!.
في نبرة محملة بالدعاء علي الإخوان ومن معهم، والدعاء ل"لأولادنا
في الشرطة والجيش من الغدر بهم، زي اللى حصل في مديرية الأمن في المنصورة"، كانت
جدتي تقص علينا كيف أن شباب 6 إبريل ارتكبوا الجرم المشهود في حق الوطن، حيث أكد لآيات
الله المذيع برتبة لواء في أمن الدولة أحمد موسي اكتمال عناصر المؤامرة الكونية
علي ربوع المحروسة بمشاركة شباب الثورة.
وفيما لم تتذكر جدتي ما الجرم المشهود، مكتفية بالمؤثرات الصوتية
والبصرية المصاحبة لأداء موسي لتقنعها بفجاجة جريمة الثوار، اكتفيت في تلك اللحظة بأن
أذكرها بأنها ربما تجد أسمي ضمن هؤلاء الممولين الذين تشاركوا برسائل علي فيس بوك
مع محمد عادل، وحينها سيقنعها أحمد موسي بأدائه المسرحي أن حفيدتها لابنتها التي عاشت معها 25 عاما، من
أبناء السفاح الذين خربوا البلاد، من أجل حفنة من الدولارت.
وحينها استجاب القدر لسيناريو الحفيدة الممولة سريعا، لتعلم جدتي أن
حفيد صديقتها وقريبتها، طبيب الأسنان الناجح المماثل لعمر حفيدتها، قُبض عليه
بتهمة تفجير مديرية أمن المنصورة، وعليها الآن ألا تشعر بغضب علي كل المعلومات
المضللة والمحرفة المنشورة في الجرائد عن الطفل الذي عرفته حتي صار شابا، وعليها
ألا تشعر بالحنق لأن سمعة شاب في مقتبل العمر تتدمر علي يد رجال الوطن "الجيش
والداخلية"...ربما كل ما علي جدتي
وزوجة الطبيب الشاب وسيدة المطعم فعله..هو الدعاء أن يظل القتلى والمعتقلين في
الأيام المقبلة غرباء عنهم..إسكاتا لما بقي من الضمير.
No comments:
Post a Comment